حدثني الزميل المصور الفتوغرافي محيي الدين سالم عن مشهد علق في ذاكرته حدث في يوم من أيام طفولته, عندما كان مع أقرانه يلهون ويلعبون في أحد الساحات والأماكن المفتوحة القريبة من تجمعاتهم السكنية في مدينة المكلا – يرتادها خلسة في المساء (شاربي الكحول) قبيل أن يزحف السكان والعمران عليها – فوجئوا بتوافد أشخاصًا غرباء أحدهم ضخم الجثة يمتطي دراجة نارية تسمى “ألماني” .. فتسربل في نفوسهم الخوف والرعب لانتشارهم في المكان وتحذيراتهم للأطفال بالابتعاد ..
قال (محيي) بطريقة حديثه التي لا تخلو من الطرافة ” فحطنا سريعًا وغادرنا المكان , لكن فضولنا الطفولي ظل فينا , فأبقينا نتلصص – عن بعد – على الرجال وهم يمشطون الساحة ذهابًا وجيئة , فتسللنا بالقرب منهم لعلنا نفهم ماذا يفعلون! , وعن ماذا يبحثون؟..” فأتى أحدهم – فرحًا – وفي يده “خشرة رصاص”.. وذهبوا سريعًا.. وعرفنا فيما بعد – والكلام لازال للزميل محيي – أن هؤلاء المنتشرون في الساحة هم رجال شرطة وبحث جنائي وأنهم كانوا يبحثون عن هذه “الخشرة” وأن أحدًا من الأشخاص – ممن يرتادون المكان في جنح الظلام – أطلق عيار ناري في الليلة التي سبقت!!.
حدث هذا ..
فماذا عسانا أن نقول اليوم ..
كم سنحتاج لرجال أمن ليجمعوا “خشرات الرصاص” المتطاير في الهواء بمناسبة ودون مناسبة ..
لقد أصبح إطلاق الرصاص “على قفا من يشيل” في واقع مستهتر بكل شيء , ففي الأسواق العامة مثلًا تجد احدهم إذا أراد أن يلفت انتباه زميل له أو يناديه فلا يتورع أن “يقرح” كم طلقة! وقس على ذلك صور مشابهة! أما في أسواق القات فحدث ولا حرج! .. لكن اشد إيلاما ما كان تشهده مناسبات الأعراس و”السريات” من استعراضات لإطلاق وابل الأعيرة النارية بوصفها “موضة غريبة” – للأسف – لازمت هذه المناسبات في مدينة المكلا وغيرها من مدن حضرموت وخاصة منها المدن الحضرية التي تتمتع بالهدوء والوئام والتمدن حيث أن أهلها المسالمين – إلى وقت قريب- لا يعرفون مثل هذه الظواهر المزعجة والمقلقة لأمنهم وسكينتهم حتى أوفدت إليهم ثقافة “البنادق” فأصبح أطلاق الرصاص ختم للمرجلة والقبولة الجديدة , فلا يكاد يخلو عقد قرآن من الـ “القح” و”البم” – إلا من رحم ربي طبعًا – أما باحات المساجد وصفوف المصلين فقد عجت بصنوف شتى من الأسلحة والأشخاص (المبندقين) من مختلف الأعمار حتى يخيل لك انك في ساحة معركة! .. هذه الصورة المقرفة بدأت تأفل رويدًا رويدا بعد تحرك شعبي ضاغط وموقف جاد من المجتمع بمختلف مكوناته وخاصة من أصحاب الفضيلة الوعاظ وخطباء المساجد والناشطين في مواقع التواصل الاجتماعي الذي كان لهم دور لا يستهان به في الإقلاع عن هذه الظاهرة الخطيرة التي حصدت أنفس بريئة..
لكن الرصاص الراجع والطائش مستمر في نكش الجراح وحصد المزيد من الأرواح..
فلاشك أن استئصال هذه الظواهر الغريبة والدخيلة على مجتمعنا تحتاج صرامة وقوة في التعامل من قبل أجهزة الأمن وحماية الشرعية , إذ أن الإفراط باستخدام الرصاص في المناسبات المختلفة سواء كانت اجتماعية أو رياضية أو نحوها أو اللهو به أو “الصطفة” أو “الاستعراض بالفتونة” أصبح مرض مستشري ومعالجته يحتاج تصميم حاسم للقوى الأمنية والعسكرية لوأد هذا الخطر الداهم ومحاسبة من يرتكب هذه الأعمال العابثة ليس هذا فحسب بل متابعة من يقوم بها – أينما كان – لما تشكله من إخلال بسكينة المجتمع وأمنه وتعريض أرواح الناس للموت والإصابة المحققة بسبب الرصاص الراجع القاتل.
فهل من يوقف هذا الطيش!