طوفان الأقصى..عودة إلى أمجاد العرب
محسن فضل
اشرقت شمس صباح الـ 7 من أكتوبر 2023م ، لتكتب خيوط الشمس المشعّة درساً جديداً من نوع أخر على امتداد جغرافيا الوطن العربي من المحيط إلى الخليج عنوانه الانتصار للأرض والكرامة ، سطّره شباب المقاومة الفلسطينية بقيامهم في لحظة مفاجئة بدك سياج اغتصاب الأرض والفصل العنصري الذي انشأته دولة الكيان الصهيوني تحت مسمى الإجراءات الأمنية .
إن ما يميز ما حدث في الـ 7 من أكتوبر عن غيرها من أحداث الحروب السابقة ، هو أن المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة ، هي من كانت تمتلك زمام المبادرة لتنفذ العملية العسكرية في الزمان والمكان المناسبين، وهذا أن كان تطوراً نوعياً في نظر معظم المتابعين لشأن المقاومة الإسلامية حماس وأذرعها العسكرية في القطاع ، إلا أنه بالنسبة لقيادات المقاومة في شقيه السياسي والعسكري يعد تطوراً حتمياً ويجب أن لا يتوقف عند هذا المستوى ، لأن من يملك حق الدفاع عن الأرض والهوية والمقدّسات عليه العمل على تعزيز قدراته العسكرية ومهارات مقاتليه ، لا سيما وهو يواجه عدو محتل مغتصب وغاشم لا يحترم مطلقاً الإنسان العربي ولا يقيم له أي وزن ، ولا يؤمن بمفهوم السلام وسبل العيش المشترك .
كما أن الواقع العربي المحيط بفصائل المقاومة الفلسطينية ، هو الأخر لا يعول عليه خلال المرحلة الراهنة على الأقل ، إذ أن هذا المحيط يعيش في ظل أتون الصراعات الداخلية والانقسامات السياسية ، والأخطر من ذلك أن جزء من هذا المحيط العربي ، نراه اليوم ومع كل أسف ينزلق انزلاقاً خطيراً نحو مستنقع التطبيع مع دولة الكيان الإسرائيلي .
ومن هذا المنطلق ارتأت فصائل المقاومة الفلسطينية أنه لا جدوى من التعويل على أي طرف ، وكرست جهودها في تطوير ذاتها عسكرياً وقتالياً بشكل متسارع ، وكأنه ليس أمامها إلا العمل بالمثل القائل : ( لا يحك ظهرك مثل ظفرك ) ، وهذا ما تجلى عملياً خلال ساعات الصباح الأولى ليوم الـ 7 من أكتوبر ، ونحن نشاهد صقور المقاومة الفلسطينية وهم يجسدون ملاحم الفداء والتضحية والانتصار العظيم الذي افتقدناه كعرب وكمسلمين منذ نصف قرن ، ولم يكن بوسعي في الوقت الذي كنت أشاهد أبطال مقاومة القطاع وهم يلامسون تربة وطنهم الطاهرة المحتلة ويقتحمون المواقع والقواعد العسكرية لدولة الكيان الصهيوني ، إلا أن تذكرت أحد الأبيات الشعرية للشاعر اليمني الثائر أبو الأحرار محمد محمود الزبيري حين قال : ( يوم من الدهر لم تصنع أشعته … شمس الضحى بل صنعناه بأيدينا )
على مدى عقود ماضية ، صدرت مئات القرارات من الأمم المتحدة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية ، إلا أنه لم ينفذ منها حتى قراراً واحداً ، وهذا باعتراف الرئيس محمود عباس نفسه ، كما لم تستجب دولة الاحتلال الإسرائيلي لأي من هذه القرارات الدولية ، ومضت في تنفيذ سلوكها الاستيطاني المتغطرس دون أدنى اعتبار لاحترام المواثيق ومطالب الإجماع الدولي ، وتعمل بشكل مستمر في بناء المستوطنات الغير شرعية ، التي بلغ عددها في الضفة الغربية لوحدها نحو 230 مستوطنة .
ومع عجز الشرعية الدولية في تطبيق قراراتها المتعلقة بالقضية الفلسطينية على أرض الواقع ولو بالعمل على تطبيق أبسط القرارات الممكنة من باب حفظ ماء الوجه ، إلا أن الهيئات الأممية والدول الكبرى صانعة القرار العالمي هي الأخيرة قد اسهمت بشكل واضح في تمييع الحق الفلسطيني في السلام والأرض ، وكانت شريكة في تعنت الكيان الاستيطاني المحتل ، وشريكة فعلية في زعزعة أمن واستقرار المنطقة لأكثر من نصف قرن .
وقد تسبب ذلك العجز الدولي المتآمر في دخول القضية الفلسطينية العادلة مرحلة موت سريري لفترة زمنية طويلة ، لهذا كان لابد من انعاش القضية لتعود إلى الحياة مجدداً ، ومن هنا جاءت عملية الـ 7 من أكتوبر المسلحة كوسيلة انقاذ وضرورة ملحة للقضية الفلسطينية أولاً ، ولدول القرار العالمي ثانياً ، ومن المؤكد أن العملية العسكرية قد أعادت القضية الفلسطينية إلى عالم الحياة ، وهي بلا شك سترغم الدول الكبرى في إعادة النظر للتعامل مع مثل هكذا قضية يجمع على عدالتها أكثر من ثلاثي دول العالم ، وأنه لمن الخطأ الفادح على دول القرار العالمي استمرار التجاهل أمام قضية مركزية ومحورية مثل القضية الفلسطينية ، لما في ذلك من عواقب وخيمة على الإقليم والعالم معاً ، وهو ما اثبتته عملية 7 أكتوبر العسكرية للمقاومة الفلسطينية ، وفي حال استمرار تجاهل الحق الفلسطيني المُعترف بها دولياً ، فإن التكلفة ستكون باهظة الثمن سواءً على دولة الاحتلال التي تقف حجر عثرة أمام عملية السلام أوعلى الدول الكبرى المتخاذلة أمام نيل الشعب الفلسطيني لحقوقه المشروعة المتمثلة في دولة مستقلة وحق العودة والعيش في سلام واستقرار .
شكّل التآمر الغربي والصهيوني بمساعدة عملائهم في المنطقة العربية على ثورات الربيع العربي ضربة قاسية للمشروع العربي الجامع والذي كان يتمثل بشكل خاص في القضية الفلسطينية ، فعلى الرغم من مساوئ الأنظمة العربية التي ثارت عليها شعوبها ، إلا أنها كانت أنظمة تعطي القضية الفلسطينية قدراً مما تستحقه ، يكفي أنها كانت أنظمة تخجل نوعاً ما من الحديث جهاراً حول التطبيع مع دولة الكيان الإسرائيلي .
وحين انهارت وتبدلت أنظمة دول عربية كان لها قيمة ووزن في القضايا العربية ، وأصبحت اليوم هذه الدول تعيش صراعات بينية وحروب أهلية ، تسلقت بعض الدول العربية الصغيرة لتقود زمام الموقف العربي ، وتسعى لأن تغرقه في وحل التطبيع مع دولة مغتصبة لأرض عربية وتمارس أبشع أنواع الجرائم والتعذيب بحق شعب عربي أعزل .
وقد ذهبت مثل هذه الدول العربية الناشئة في الموقف والتاريخ والتي لم تجد لنفسها مكانة إلا أن تكبر عربياً في الموقف والمكان الخاطئين ، ورمت بنفسها في أحضان الكيان المحتل ، ولم تكتف بذلك ، بل إنها تبذل قصارى جهدها في تعميم مفهوم التطبيع على مختلف الدول العربية الأخرى التي مازالت ترفض التقارب مع دولة الاحتلال دون نيل الشعب الفلسطيني دولته المستقلة وحقوقه العادلة .
ومؤخراً بحسب مسؤولين غربيين فقد كانت دولة المملكة العربية السعودية تقف على عتبة باب التطبيع الإسرائيلي ، ولكن ربما هذا لن يحدث على المستوى القريب ، وربما صار من المستحيل حدوثة على الإطلاق .
إن ما حدث يوم 7 أكتوبر على تخوم قطاع غزة بأيدي أبطال المقاومة ، لن يكون كما قبله ، فهذا اليوم قد أحرق أوراق سياسية كثيرة ، وهو في ذات الوقت سيعمل على ترتيب الأوراق السياسية من الان وصاعداً على طريقته الخاصة .
ولا شك أن الدول العربية المطبّعة مع دولة الاحتلال أصبحت اليوم في وضع لا يحسد عليه ، فدولة الاحتلال غير راضيها عليها ، وشعوبها تحتقرها ولا تثق بها ، وهي في ذات الوقت دولاً ليس بمقدورها أن تكون طرفاً في أي مصالح سياسية عربية إسرائيلية ولا راعية لاتفاق سلام ، لأنها دول غير محايدة على رغم عروبتها وهي تقف في صف الطرف المعادي للعرب وللمنطقة بشكل عام .
ومن المؤكد أن عملية 7 أكتوبر العسكرية التي صنعتها حركة حماس مؤخراً ، قد شكلت طوق نجاة لبعض الدول العربية التي كانت في طريق التطبيع مع دول الاحتلال ، تحت ضغوط غربية ، وعلى هذه الدول أن تشكر فصائل المقاومة لأنها لم تسمح لها أن تسقط في مستنقع التطبيع ، وخلقت أمامها فرصة ذهبية للاصطفاف والتمترس خلف القضية الفلسطينية بكل قوة ودون أي خوف ، وبإمكانها الان طرح أوراقها على الطاولة والتفاوض بلغة قوية في سبيل الانتصار للحق الفلسطيني والوصول إلى سلام عادل وشامل في المنطقة قاعدته الأساسية ميلاد دولة فلسطينية مستقلة .
انعكاس ذلك على دولة الاحتلال إن ما حدث في صباح يوم السابع من أكتوبر الجاري لهو من أبلغ الدروس العسكرية والحربية الذي يتوجّب على دولة الاحتلال الاسرائيلي استيعابه جيداً ، بل ويحتّم عليها أن تعيد النظر مليّاً في رؤيتها للحقوق الفلسطينية الوطنية المشروعة ، بكونها حقوق لا يمكن إلغائها أو دفنها أو تجاهلها بأي شكل من الأشكال .
والأهم من ذلك أن تدرك دولة الاحتلال أن واقع المقاومة الفلسطينية قد تغير كلياً وأصبحت ذي قدرة على التأثير في سير المعارك والحروب حتى أمام دولة تمتلك ترسانة أسلحة قوية مثل إسرائيل .
وإن كان تنامي قوة المقاومة في قطاع عزة يمثل إحدى المشاكل للدولة الصهيونية فأن مساحة الدولة ذاتها تمثل أبرز المشاكل للدولة ذاتها ، فهي أساساً تفتقر ( للعمق الاستراتيجي) في المفهوم العسكري ، لهذا حتى وأن كانت هذه الدولة تمتلك أعتى أنواع السلاح وأحدثها تطوراً ، إلا أن هذا لا يجدي نفعاً .
وسيظل سلاح فصائل المقاومة بقطاع غزة أي كان نوعه ، يشكل تهديداً حقيقياً وفعلياً لدول الكيان وشعبها ، إذ نرى في كل مرة كيف أن حركة حماس بأذرعها العسكرية تعطّل حركة الحياة والعمل في مختلف القطاعات الحيوية لدول الاحتلال الإسرائيلي ، بدءً من حركة الطيران إلى مصانع الانتاج والبنوك والوزارات وحتى المدارس والجامعات .
وقد كشفت حرب 7 أكتوبر الأسبوع الماضي أن المستوى العسكري والقتالي الذي وصلت إليه فصائل المقاومة قد تطور كثيراً بالشكل الذي أدهش أجهزة المخابرات الاسرائيلية والغربية معاً ، وأن مثل هذا المستوى من التطور أصبح قادراً على إحداث عملية التوازن العسكري على أرض الواقع ، ليس هذا وحسب بل إنه صار بمقدور فصائل المقاومة إمكانية تحقيق النصر الذي تريديه .
وعلى ذلك ، يمكن القول إن خارطة حل الدولتين ، تُصبّ في الأساس لمصلحة الدولة الصهيونية ، وعلى المسؤولين الصهاينة اغتنام الفرصة للمضي قدماً في تحقيق هذا الحل ، قبل أن تُخلَق مرحلة جديدة يصبح مثل هذا الحل غير مقبول بالنسبة لأصحاب الأرض الأصليين .