30نوفمبر… الجنوب بين أمل الاستقلال وألم الاستغلال
المشهد الجنوبي الأول ــ صلاح السقلدي ــ العربي
برغم ما يحيق بقضيته من مؤامرات داخلية وإقليمية، يواصل الجنوب تمسُّكهُ بحبل أمل مشروعه السياسي، استعادة دولته، «جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية»، التي اتحدتْ سياسياً ذات يوم مع دولة الشمال، «الجمهورية العربية اليمنية»، في وحدة اندماجية سريعة مطلع عقد التسعينات تم سلقها على عجَلٍ وعلى وقع المتغيرات الدراماتيكية الدولية في ذلك العقد. ولكن سرعان ما أعـلنتْ مدفعية حرب 1994 فشلها وفك رقبتها وحل عروتها -المرتخية أصلاً – وإن ظلتْ بعد ذلك قائمة صورياً حتى اللحظة بفعل منطق قوة الحديد والنار وبفعل تشظي النسيج السياسي الجنوبي وسريان فيتو مصالح المحيط الدولي والإقليمي.
تُــحِـلُّ علينا ذكرى الــ51 لاستقلال الجنوب من الاحتلال البريطاني لتثير معها الحنين الى العودة الى زمن الدولة الجنوبي المستقلة، ولكن في أوضاع باتَ فيها هذا حُــلم الاستقلال الثاني يتأرجح بين كفتي الرجاء واليأس. رجاءٌ يستنشق هواءه من كِوة النصر العسكري الجنوبي، أو بالأحرى النصر المفترض أنه نصراً جنوبياً، ويستمد أنفاسه مِـن نافذة الخارطة السياسية التي تشكلت لتوها. ويأسٌ يتمدد باضطراد في دواخل النفوس وكُـنه القلوب، كلما مضى الحلفاء المفترضون للجنوب، السعودية والإمارات، صوب طاولة التسوية السياسية مع القوى اليمنية المحلية متجاهلين شريكهم الرئيس وحافظ ماء وجوههم من عار الهزيمة الماحقة التي كادت تعصف بهم منذ الأشهر الأولى لهذه الحرب. وكلما أمعنَ الخصوم من تفتيت الجبهة الداخلية الجنوبية ونسف النسيج الاجتماعي والثوري والسياسي بعبوات المال والمناصب، كما شاهدنا نسخة منذ مدة، وبديناميت المصالح الذاتية، وبارود التطرف المتوحش.
حلم الاستقلال الثاني يتأرجح بين كفتي الرجاء واليأس
اليوم الجنوب في حيرةٍ من أمرِهِ، فهو المفترض أنه ظفَــرَ بنصرٍ عسكري ويمتلك إرادته وقراره الوطني، ليقرر مستقبله السياسي. إلّا أن ثمة شعور يتملك قطاع كبير من شرائح المجتمع المختلفة بأن هذا الحُلم باتَ أبعد ما يكون عن التحقيق من أي وقتٍ مضى، برغم ما جرى في النهر من مياه كثيرة، نتيجة لدخول قطاع واسع من نخبه الثورية والسياسية معصوبة الأعيُن في حربٍ ظاهرها مصلحة يمنية شمالية متمثلة بهدف إعادة السلطة المعترف بها المسماة بـ«الشرعية» الى سدة الحكم بصنعاء، وباطنها المصالح الإقليمية والدولية، وعنوانها الصراع الاقليمي بالمنطقة، بعد أن تحوّلتْ القضية الجنوبية إلى قفازات واقية بيد دول الإقليم، وجسر مرور الى ضفاف المصالح الخليجية باليمن. مما يعني هذا، أن الجنوب إن لم تحدث هناك تحولات عاصفة تقلب كل الطاولات وتعيد ترتيب الأجندات بالمنطقة وحدوث تحولات سياسية عميقة وجذرية بالمنطقة تعيد ترتيب الدنيا، فإنه سيعود ثانية الى بيت الطاعة الوحدوي ولن يكترث له أحد حتى في الحدود الدنيا من تطلعاته «مشروع الدولة من إقليمين شمال وجنوب»، ولكن هذه المرة بصولجان خليجي غليظ وتحت مسميات مرزكشية ومخادعة من قبِيل الدولة اليمينة الاتحادية سداسية الأضلاع التي يصر عليها الخليجيون أكثر من اليمنيين أنفسهم.
ومع ذلك وبرغم مكر ولؤم الدول الإقليمية، السعودية والإمارات، وبرغم وضوح النوايا والأطماع التوسعية لهما وتطلعهما بشكلٍ مكشوف لإيجاد موطئ قَدَم وساحة نفوذ سياسية واقتصادية باليمن عموماً والجنوب خصوصاً، إلّا أن اللوم الأكبر يقع على القوى الجنوبية التي رهنت القضية الجنوبية في مضمار خليجي خاسر.
وعلى ما تقدّمَ، فمناسبة كهذه «ذكرى الاستقلال الوطني»، يجب أن تكون فرصة لمراجعة المواقف الجنوبية من هذه الحرب ومن العلاقة مع القوى الاقليمية المتواجدة بالجنوب، قبل المضي الى طاولة مشاورات ومفاوضات يتم التحضير لها بغياب الجنوب وقضيته الجنوبية، وسيكون الغياب الجنوبي عنها بداية النهاية الحقيقية للقضية الجنوبية ومثواها الأخير.
وحين نتحدث عن المشاركة الجنوبية فلا نعني المشاركة لمجرد المشاركة وبأي ثمن على غرار المشاركة الجنوبية في «حوار صنعاء» قبل سنوات والذي تم استغلاله بخبث بوجه القوى الجنوبية الفاعلة لإضفاء الشرعية على مخرجاته وانتزاع اعتراف جنوبي أمام المجتمع الدولي، حيث ما تزال المشاركة في ذلك الحوار تسلُط كسيف حاد على رقبة القضية الجنوبية حتى اليوم. ولكن نتحدث عن مشاركة فاعلة في مشاورات ومفاوضات محكومة بضوابط واضحة ومعروفة مسبقة وبمسارات معروفة مسبقاً، ترتكز على ثنائية: الجنوب والشمال، باعتبار جذر الأزمة اليمنية واُسّـها هو فشل وحدة بين دولتين أفضى الى هكذا وضع كلما نشاهد فيه من تداعيات ليست أكثر من ارتدادات متوقعة لزلزل ذلك الفشل الوحدوي المدمر. فإن لم يتم الوقوف بذكرى الاستقلال عند هذه الأمور وعند تقييم العلاقة الجنوبية مع «التحالف» وإعادة النظر فيها وفي علاقة الخصام والوئام مع «الشرعية» بعيداً عن صراع ساحات الاحتفالات وصراخ ميكرفونات البيانات السياسية في ساحة العروض وشوارع «كريتر» المعلا، فهذا يعني أن الجميع يمضي الى المجهول بل الى «اصطبل شارع الستين» وحيّ الحصبة في صنعاء اليمن، والى جنوب ملغوم بكل مفاصله.