أنا والخائن!
بقلم/د.عبدالحكيم باقيس
في جدار غرفة الجلوس (المحضرة) تفتح إدراكي البصري على صور في الحائط كانت تثير انتباهي كل يوم.. كانت تعلق صور لزعيمين اثنين فقط.. هما القومي جمال عبدالناصر، والشيوعي ماو تسي تونغ، لا أدري كيف سمح أبي المتدين إلى درجة شديدة بتعليق هذه الصور بدلا عن صور اﻷقرباء كما كنت أشاهد في معظم جدران بيوت الجيران!.
في الستينيات كان اسم جمال عبد الناصر يتردد في كل ساحة وبيت في القرية – طبعا كان يتردد في العالم، لكن إدراكي للعالم لم يكن وقتئذ يتجاوز شوارع وأزقة القرية التي ولدت بها! – والتماسا لبركات ثورية لاسم (جمال) فقد حمله كثيرون ممن ولدوا وقتئذ، ومنهم شقيقي الذي يكبرني بعامين الذي تخيروا له اسم جمال، ولأن قدري في الولادة أن جئت بعده، فقد ألصقوا بي اسم عبدالحكيم.. تعلمون أن اسم عبدالحكيم كان شديد الاقتران باسم جمال.. لا بد لجمال من وجود عبدالحكيم!.
كانا ثنائيا ثوريا سحريا وهما يظهران بالزي العسكري، ما يثير شغف الملايين في العالم العربي: جمال عبدالناصر وعبدالحكيم عامر.. رائعان بحق.. رحمهما الله.
مما علق بذاكرتي وعززته شهادات كبار العائلة، أنه حين كنت أسير برفقة شقيقي جمال، ونحن صبية صغار، نتلقى من الناس بعض الحفاوة وكلمات الاطراء التي كنت أجهل سببها..
ولكن حدث أن تغير الحال بعد مدة قصيرة؛ فقد كنت أتضايق إلى درجة الحزن حين أصبح فجأة يذكر اسمي مقترن بصفة الخائن!.
– ياإلهي لم يقولون ذلك عني!..
وكان مما يزيد في ألمي حين أسير أنا وشقيقي جمال بصحبة والدي.. ويقال لشقيقي: أهلا بالزعيم وأنا يقال عني: هذا الخائن..!.
كنت أشعر بالحرج والحزن، وأبحث في خيانتي، وأي خيانة يرتكبها طفل دون العشر سنوات؟!..
– لا يمكن أن تطلق هذه الكلمة القاسية على من يضرب شقيقه من أجل قطعة بسكويت أو مكعب سمسم!..
ربما هذه الخيانات التي أتذكرها..
بعد ذلك علمت أنه بسبب هذا الاسم الذي أحمله، كان في اعتقاد البسطاء من الناس أن القائد العام للقوات المسلحة المصرية المشير عبدالحكيم عامر قد ارتكب جرما أو تقصيرا يرقى إلى درجة الخيانة، ولعل في إفراطهم في محبتهم للزعيم جمال عبد الناصر ما دفعهم إلى إطلاق هذه التهمة الخطيرة التي يكتفها الكثير من الغموض، وتفتقر إلى شيء من المنطق.. بحثا عن الشعور بالراحة بسبب ألم الهزيمة!!.
منذ ذلك الوقت وأنا أفتش في التاريخ ما استطعت إلى ذلك سبيلا، أبحث عن ذلك (الخائن).. ولا أجد أمامي غير ظلال ذلك الزعيم الذي اسمه جمال وتخفت من حوله بقية الشخصيات، راحلة بقصصها وألمها إلى ذمة التاريخ.. صرت أشفق على ذلك الذي اسمه عبدالحكيم.. ويزداد إشفاقي عليه وعلى آخرين سنة بعد سنة، وإلى اليوم وأنا أنظر لصفة الخائن وهي تطلق بسماحة مفرطة في السذاجة، وتلحق بكثير من الشرفاء الذين لم تكن خيانتهم إلا بسبب اختلافهم أو معارضتهم، وربما وقوفهم في وجه كل زعيم واتباع الزعيم وجمهور الزعيم..!.