تحترق أرض غزة ويذبح ابناؤها، فأين انتم ياعرب من العروبة!!!
أنعم الزغير البوكري
سألني كثيراً لماذا لاتكتب عن غزة شيئاً ؟!
خانني قلمي وقال: هل تحتاج غزة أن يُكتب عنها؟ غزة الضاربة في جذور التاريخ والجغرافيا، المكتوبة في الماضي والحاضر والمستقبل. بل أنا من أحتاج أن أكتب عنها، أن أتذوق معنى العزة والكرامة، وكيف يسعى الإنسان للحياة من أجل الله والسير في سبيله.
غزة التي تأبى أن تتخلى عن شرف النيابة عن مليار ونصف المليار مسلم، وتضحي وتهب من زينة أطفالها وخيرة شبابها وكريم نسائها وإباء رجالها نيابة عنا جميعاً، الخندق الفلسطيني يقاوم نيابة عنا وهو خط الدفاع الأول عن الأمة العربية، بينما زعماء العرب في سبات نومهم .
غزة التي في كل مرة تنبعث من الرماد كطائر الفينيق عند الرومان، والعنقاء عند العرب، والسيمرغ عند الفرس، وقنرل عند الأتراك… كثيرة هي المسميات والمعنى واحد؛ الولادة من رماد احتراق الجسد.
كم أخبرونا عن التغريبة الفلسطينية والتهجير والمجازر الوحشية في صفحات التاريخ، لم نحضرها لكن سمعنا عنها حين كنا أقل وعيا وأقل قدرة على التحليل وقراءة الواقع، وكل ما كان يصل عبر القنوات الفضائية والجرائد كان عبارة عن أخبار هنا وهناك، بها حصيلة شهداء وعمليات وبضع مفقودين.
كل شيء مختلف الآن، كل المشاهد تصل لحظة بلحظة، وكل الأحداث تجري على مرأى ومسمع العالَمَيْن العربي والغربي، وقد انقسموا إلى مساند داعم ومجيش للصهيونية المتوحشة، أو متفرج مطبع خانع مكبل العزيمة والعقيدة، أو شعوب مُحتجَّة تتظاهر وتصدر أصواتا وتوصل صرخات علَّها تجد في أذن من تبقى لهم شيء من فتات الإنسانية والضمير الحر في العالم أن: “أنقذوا غزة! غزة تُباد يا عالم!”.
لكن؛ من ينصف حبة القمح إن كان القاضي دجاجة؟
ستظل المشاهد تطاردنا والبكاء والصراخ يملأ آذاننا، والمشاهد القاسية التي نسير نحو الاعتياد على مشاهدتها. لقد أصبحنا نرى الأجساد مشوية واللحوم مفتتة والرؤوس مقطوعة والأعضاء مبثورة وكأننا نمرر أحداثا عادية في صباح مشمس هادئ وجميل.
في غزة لسان حال أهلها يقول كما قال تميم:
أبحث عن قبر من نبكي فلا أجد
فالشهداء جميعا ها هنا وفدوا
حتى الحسين يعزيهم بمن فقدوا
هل مات من أحد؟ أم لم يمت أحد؟
أم أنهم كلهم موتى وما عرفوا
كفوا لسان المراثي إنها ترفُ
في غزة تتحول سيارة “الآيس كريم” لمستودع موتى، ويقبع أهل المدينة كلها في ظلام دامس تضيء الصواريخ سماءهم، وينتهي شحن هواتفهم فيقطع الاتصال بالعالم ويستفرد الموت بهم. يشعرون بالخذلان مع سماع صوت كل صاروخ ينتظرون سقوطه فيخطئهم ويمر أمام أعينهم ليصيب جيرانا لهم، هم لم يعتادوا العتمة، ولكن قسرا؛ صارت جزءا منهم!
في غزة يغمس خبز الجوع بدماء الأطفال، وتبتلع ريقك دون أن تجد قطرة ماء ترويك، تنتظر أمام مراكز توزيع الماء والخبز لساعات، وربما تعود محملا بالخيبة والخذلان، فأنت لم تخذل مرة واحدة، لقد أحاطت بك الخيبات ونفذت إليك من كل جانب، وكل شيء كان بالأمس القريب رفيقا صار اليوم منعدما، حتى أبسط شروط العيش.
في غزة يطلب من المستشفيات إخلاء الجرحى تمهيدا للقصف وتطمس عائلات بأكملها من السجلات المدنية، وأمٌّ تكتب أسماء أطفالها على راحة أيديهم وفي كل أجزاء أجسادهم كي تعرف هوياتهم عند موتهم، وتدفن الأشلاء في مكان واحد.
في هذه المدينة يرابط الناس في بيوتهم حتى الموت، وتدفن عائلة بأكملها في كفن واحد. فعن أي ألم تتحدثون وبأي إنسانية تتغنون؟
بينما وانا اشاهد الأحداث في غزة توقفت عن مقطع مصور لأم أخذت لأطفالها حمّامًا دافئا، ثم ألبستهم ملابس نظيفة، ووضعت على النار وجبة طعام، لم تعلم أن صاروخ الغدر سيدمر أحشاءهم قبل وصول اللقمة إليهم، لقد كانت تجري حافية تصرخ: “الاولاد وين؟ الاولاد ماتوا بدون ما ياكلوا يشهد عليا الله”!
المشاهد في غزة تبدو سريالية محضة وكأنها مقطع من مسلسلات الجريمة الدموية.
مشهد من طبيب مناوب يصله خبر استشهاد ابنه فيعجز أن يحدد أيٌّ هو من بين الأجساد والأشلاء، فقد تبعثر جسده الصغير وتغيرت ملامحه. تبحث الأم بين جنبات المستشفى وقلبها بين يديها يرجف ويعتصر، لا تريد أن تصدق أنها فقدت قطعة من كبدها، تفضل أن تطول المسافة والوقت على أن تدرك أن الأشلاء المكفنة في الثوب الأبيض لطفلها، لقد سرقوا منها فلذة كبدها وبسمة حياتها في لحظة!
حيث لا مكان لحرب ولا سباق لمجازر ولا إبادة مفتوحة، ولا جنون إجرام يعد من أشرس وأوحش ما مر في التاريخ المعاصر، وأمام أنظار العالم، كل جرائم الحرب هذه التي أذهلت الحجر والشجر قبل بني البشر، شهداء بألالاف ليسوا مجرد أرقام، كان لكل منهم بيت وقصة وعائلة وطموح وحلم وذاكرة وقلب مفجوع..
لهذا القهر تنتفض المقاومة الأبية وتخرج كتائب القسام للرد والدفاع، فمنذُ متى كان ممارس الإرهاب مدافعاً عن نفسه ومقاوم هذه المجازر إرهابيا!؟ خسئت والله الموازين المختلة!
المقاومة الفلسطينية كسرت جدار الخوف وخرافة الجيش الذي لا يقهر، اخترقت الحدود وسيطرت على المواقع العسكرية خلف العدو، أجهزت على الجنود واستولت على أسلحتهم ودباباتهم، قتلتهم وأسرتهم وزعزعت الأرض تحت أقدامهم. جعلتنا نتلذذ بهرعهم في صحراء الغلاف هروبا من الموت أو الأسر. لقد شاهدنا تغريبتهم ولو لبضع دقائق.
تسببت المقاومة بهجرة عكسية لكل ابن يهودية يحمل جوازا أجنبيا، وجعلته يهرول لدولته التي لفظته بادئا: هذا ألماني وأخرى هولندية وثالث من الجحيم. لقد تعرت حقيقتهم الهشة التي أثبتت أنهم فراغ لولا أسلحة وعتاد الراعية اللذوذ أمريكا. وأما المقاومة وحاضنتها الشعبية فقد ازدادت متانة وقوة؛ بأسها بأس شديد.