الوهابية تطرق آخر معاقل “الصوفية”.. اجتثاث أم رسائل صراع
المشهد الجنوبي الأول ــ وكالات
لساعات طويلة، وقف الحبيب أبوبكر بن علي المشهور، أمام الضباط السعوديين في حضرموت، في عملية استجواب هي الأولى من نوعها.
قدّم هذا الكهل، في السبعين من عمره، كما يقول مكتبه، تفاصيل كاملة عن نشاطه، واضطر لشرح دروسه، التي بالكاد يقف لدقائق في أحد جوامع حضرموت يلقيها على الحاضرين.
لا مراكز تجنيد يملكها، ولا نشاطاً سياسياً يقوده، وكل ما يملكه الرجل، الذي ولد في أحور بمحافظة أبين وانتقل إلى الحجاز قبل ما يستقر به المطاف في وادي حضرموت، مدارس ومعاهد في مختلف محافظات الجمهورية، تقدم دروساً عن التصوف ونشر التسامح.
بدا مكتبه من خلال البيان الذي أصدره عقب تداول أنباء عن اعتقال المشهور، وكأنه خائف على حياته، فاكتفى البيان بالإشارة إلى أن الساعات التي قضاها في معتقل الاستخبارات السعودية مجرد استدعاء.
كانت حضرموت، وتحديداً مناطق الوادي والصحراء، معقلاً للصوفية، التي تتخذ من تريم مدرسة على مستوى إقليمي ودولي. ولم يعرف عن هذا التيار الديني الذي يوصف بالاعتدال أي نشاط سياسي أو تعصب ديني، مما جعله محل ترحاب الحضارم الذين يعرفون بثقافة التسامح والاعتدال، لكن هذه الحادثة التي تعد واحدة من الاستهداف المباشر، تجعل مستقبل الصوفية في خطر، في أهم وآخر معاقلها، فالاستجواب السعودي، التابع لنظام الوهابية، قد يكون مقدمة لاجتثاث التيار المنافس، هذا إن لم يكن يحمل رسائل سياسية للحليف اللدود الداعم لنشر الصوفية، الإمارات.
قبل وصول القوات السعودية إلى وادي وصحراء حضرموت، مطلع العام الجاري، تحت يافطة حماية “برلمان الشرعية” كانت الجماعات الإرهابية المرتبطة بالسعودية تصعّد نشاطها في هذه المناطق التي تعرف بدعمها للصوفية، فالاغتيالات لم تتوقف، والتفجيرات لم تستثنِ حتى المدينة التاريخية في شبام، والتي تبنتها القاعدة عندما كانت حاكمة على المحافظة بأوامر التحالف في 2016.
اليوم يبدو أن السعودية لم تعد بحاجة لشماعتها، وقد أحكمت قبضتها على وادي وصحراء حضرموت، ذي الـنصف مليون برميل من النفط المنتج يومياً.
لم يكن المشهور بحاجة لشرح عمله للضباط السعوديين، فهو أولاً وقبل كل شيء طاعن في السن، فضلاً عن أنه يمارس نشاطه داخل أراضي بلاده، لكنه يدرك حجم الخطر، فالعديد من الرموز الدينية في الجنوب قضوا بالاغتيالات أو تحت التعذيب في سجون الإمارات، فقط لأنهم رفضوا حضور جلسة لأحد ضباطها، وأبرزهم الراوي، الذي قال عنه القيادي في المقاومة الجنوبية عادل الحسني بأن الإمارات استأجرت فريقاً متخصصاً لاستدراجه إلى معسكر الجلاء، وقتلته هناك قبل أن تلقي بجثته في أحد شوارع عدن.
الفرق بين الراوي العريقي والمشهور؛ أن كلاً منهما يمثل مذهباً مختلفاً، فالعريقي كان من تيار السلفية الوهابية المعارضين لتوجهات الإمارات، بينما المشهور من التيار الصوفي الذي وصفه محمد بن زايد في حضرة بابا الفاتيكان وشيخ الأزهر بأنه المذهب الاكثر اعتدالاً وأنه يمثل المنطقة العربية لا السلفية الوهابية، لكن ما يجمع القياديين أنهما يمنيان في لعبة الصراع الإقليمي.
مثلما بقيت السلفية الوهابية خلال السنوات الماضية في مرمى التصفيات الإماراتية، عانت الصوفية أيضا الكثير، فالجنوب الذي كانت طقوس الصوفية تزيّن رمضانه إلى جانب التراويح، بات منذ عامين مهجوراً. فالتيار السلفي الموالي للسعودية قضى على كافة الطقوس في عدن، فأغلق جامع العيدروس ومنع طلابه من أداء طقوسهم الرمضانية للعام الثالث توالياً، وهي ليست بدعة دينية بقدر ما تعكس تقاليد اجتماعية لمناصرة الفقراء وإطعامهم، أضف إلى ذلك إعادة تشكيل جامع السقاف وهدم أضرحة لزعماء التيار الذي يمتد تاريخيه لأكثر من 1500 سنة.
غادر أتباع الصوفية عدن إلى حضرموت والمحافظات الشمالية، ولم يتمكنوا حتى اليوم من زيارة ضريح أيٍّ من أوليائهم؛ فالجماعات المتطرفة هدمت كافة المعالم على تاريخ السلفية من باب المندب حتى حضرموت.
الكثير من الأقليات الدينية نزحت من الجنوب. البهرة التي أصبح أنصارها هدفاً للتيارات الأخرى، ووصل الحال بالمتطرفين لاختطاف أبناء العائلات المحسوبة على المذهب والمطالبة بفدى. البهائيون؛ الذين دمر المتطرفون جامعهم الوحيد في كريتر “خواجة”، لكن استهداف الصوفية الجديد جاء بعد أيام على إصدار الإمارات قراراً بمنع أتباع المذهب الوهابي من استخدام مكبرات الصوت خلال صلاة التراويح، وكأن السعودية التي اعتادت التراشق مع الإمارات باليمنيين في مناطق سيطرتهما، جنوباً، قررت نقل صراعاتها مع حليفها في الحرب على اليمن إلى المستوى الطائفي.
وكالة عدن الإخبارية